عبودية الحرمان

عبودية الحرمان

قدر الله عز وجل أن تكون الدنيا دارا للآﻻم و المحن والفتن ..ليستخرج من قلوب أوليائه وأصفيائه عبودية يحبها من الصبر والمصابرة والمرابطة وحسن الظن والخوف والرجاء والرغبة والرهبة والحب والشوق..

وكلما ازدادت الفتن ظﻻما و عتوا وعلوا كلما ازدادت القلوب تضرعا وخضوعا وسجودا بين يدي باريها ومعرفة بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وآثارها في اﻷنفس واﻵفاق ولهذا خلق الله السماوات واﻷرض

"الله الذي خلق سبع سماوات ومن اﻷرض مثلهن يتنزل اﻷمر بينهن (لتعلموا )أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما"

معرفة الله هي الغاية من ذلك الوجود..معرفة مستلزمة للاستسﻻم لحكمه الشرعي والرضا بحكمه الكوني ومدافعة اﻷقدار باﻷقدار

مدافعة قدر الذنب بقدر التوبة وقدر وجود الشر والكفر والظلم والفساد بقدر الصﻻح واﻹصﻻح والدعوة والجهاد ..!

وقد يحرم الله عباده بعض ما يريدونه ليعطيهم ما يحتاجونه وﻻ يفهم العبد ذلك إﻻ إذا أسلم قياد قلبه إبحارا في اسم الله الحكيم..

"وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرلكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم ﻻ تعلمون"

فالله هو الحكيم العليم يقدر الضراء والبلواء واﻵﻻم والجراح لتخرج القلوب من ظلمات الطبع والنفس والهوى والمعاصي والفسوق والكفر إلى نور التوحيد والمعرفة واﻹخﻻص والتجرد واﻹنابة

فتذوب القلوب شوقا لربها التي عرفته وأحبته وخافته فيكون ذلك أغلى عندها مما طلعت عليه الشمس وألذ وأطيب من كنوز اﻷرض بل يكون هذا أعلى نعيمها في جنة المأوى وهو القرب من الله..

وقد قدر الله ذلك الحرمان على أنبيائه ورسله ليجدوا من هذا النسيم العليل و برد اليقين الذي يحيل حرائق الدنيا ودخانها إلى سﻻم و جمال وهو استصحاب معيته وقربه وإحاطته ودفاعه وكفايته وتدبيره وتوكله بأمور عباده خيرمن توكل اﻷب الشفيق الرحيم واﻷم الشغوف بولدهما..ولله المثل اﻷعلى في السماوات واﻷرض وهو العزيز الحكيم..

حرم بعضهم التمكين ردحا من الزمان وحرم بعضهم الصحة وحرم بعضهم الغنى وحرم بعضهم لقاء اﻷحبة وحرم بعضهم الذرية وحرم بعضهم تأييد أبيه أو زوجته أوابنه في قضيته وقد تخلوا عنه وحرم بعضهم المكث في وطنه وحرم بعضهم حياة أحبائه و أولياء الصدق له

كل صنوف البﻻيا والمحن والرزايا قد طحنتهم وهم يزدادون ولها و شوقا ورضا بربهم وماوهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا بل ﻻ يزيدهم إﻻ إيمانا وتسليما وعمﻻ للصالحات و بﻻغا للرساﻻت بﻻ توقف أو فتور أو كلل..

وقد ضرب الله لنا مثﻻ من ذلك النور بزكريا عليه السﻻم الذي حرم الولد تسعين عاما في واقع دعوي مرير ﻻ يجد فيه معينا وﻻ رفيقا على خدمة بيت الله المقدس ومناهضة حكام الجور في بني إسرائيل ولك أن تتخيل مرارة ذلك الواقع من خﻻل مصيري زكريا ويحي عليهما السﻻم فاﻷول نشر بالمنشار والثاني ذبح ذبحا..

ومع ذلك كان زكريا عليه السﻻم كالطود الشامخ تزيده العواصف صﻻبة ورسوخا وتؤزه أزا للتضرع والدعاء والتعبد والتخشع واﻻنكسار والخضوع ..

حتى استحق تلك الفيوضات من الرحمة الخاصة اﻹلهية لتفيض عليه بسطا وبركة..

في تلك الليلة الظلماء التي ﻻ يسمعه فيها سامع و ﻻيراه راء ارتشفت شفتاه يهمس بكلمات جلجلت في السماء وسمع لعا صدى كبير سجلها الله في كتابه خلودا لحروفه ﻷن الخلود معنى ﻻ يحتاج إﻻ اﻻتصال بالحق تعالى إخﻻصا وتجردا وكفى..!

"ذكر رحمت ربك عبده زكريا"

(رحمت)الرحمة بالتاء المفتوحة التي تدل على البسط والكثرة ..

(ربك) ولم يقل رب العالمين بل ربك أنت كما أنه رب زكريا فإذا تعرضت له كما تعرض زكريا بسطت عليك الرحمات مثله..

عبده إشارة إلى سبب اﻻجتباء واﻻصطفاء وهو تحقيق العبودية فعلى قدرها تكون رحمات الربوبية وهو أشرف لقب تلقب به بشر وهو مقدم على اسمك الذي سماك به أبواك ﻷنه الوصف الذي ناداك به ربك ..!

(قل يا عبادي)

"إذ نادى (ربه) نداءا خفيا" تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة كما أنه عبده فهو ربه..

عﻻقة متبادلة ..يحبهم ويحبونه..اذكروني أذكركم..لئن شكرتم ﻷزيدنكم..هل جزاء اﻹحسان إﻻ اﻹحسان...أليس الله بكاف عبده..

إن الله يدافع عن الذين آمنوا..

نداء نقيا من الدنيا مسافرا للآخرة للمنتهى عند الله..

"قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا"

أظهر نقاط ضعفه في ندائه لربه لم يستغن لم يطغ بل تواضع وانكسر فما أقرب الجبر لذلك القلب المكسور..

ثم أثبت القاعدة الخالدة ..ﻻ يعرف الشقاء سبيلا لقلب يقول يارب يارب..ﻷنه تعلق بالله ﻻ التراب واﻷسباب المنقطعة الزائلة..

وإنما الشقاء من التعلق بالمخلوقين ﻻ الخالق..

"وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا " القرآن يتخطى خطوط الزمان والمكان لنقف سويا نشهد آﻻم ومخاوف قلب قد شاخ في الدﻻلة على الله والبﻻغ المبين..

هذه المخاوف ليست دنيوية قاحلة بل أخروية أصﻻ وفصﻻ ..

هموم الدعوة و خدمة الدين هموم تكتوي بها قلوب عباده المصلحين وتحترق أحشاؤهم عليها ومع ذلك تظل ثغورهم باسمة ﻻقترابهم من مراد الرب تعبدا وصبرا ورضا..

"فهب لي من لدنك وليا"

ﻻ من لدن اﻷطباء والعقاقير والحقن المجهرية واﻷنابيب بل من لدن القدرة والعظمة التي ﻻ يشك فيها وﻻ يقلق معها بل تذهب بالمخاوف واﻹحن..

رغم أن اﻷسباب كلها تقول ﻻ..

ولكن الكلمة أخرجها الحنين لرحمته وقدرته والثقة بهما..!

"يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا"

وراثة نبوة ودعوة وصﻻح وإصﻻح وعبودية ورضا..

هذه عبودية كل محروم..

الدعاء والتضرع والثقة واليقين وحسن الظن ..

محروم من التمكين ..محروم من الصحة ..محروم من استجابة قومه..محروم من دعم إخوانه وزوجته وأقرب الناس إليه ..محروم من الغنى والكفاية ...

بها تتحطم الصعاب وتتخطى العوائق و تفجر ينابيع العطاء وتنزل البركات ويتغير العالم بأسره..

"يا زكريا إنا نبشرك بغﻻم اسمه يحي لم نجعل له من قبل سميا"

جاءت اﻹجابة سريعة ﻷن رحمته أقرب إليك من ألمك من همك وغمك ونفسك "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب"

قربه يذيب القلب ولوﻻ الحرمان لما دعوته لتجد كوثره وحﻻوته..!

إنها عطية هنية لم نجعل له من قبل سميا..عطاؤه يدهش العقول لمن فرغ قلبه في دعائه ومناجاته..!

"قال رب أنى يكون لي غﻻم وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا"

عاد من معراج الروح وسفر القلب للآخرة ..عاد من الصﻻة وانتهى منها فقد كان قد تجلى أمام عنيه مشهد رحمة الله وقدرته

"فإن ربه تلقاء وجهه" فلما عاد إلى اﻷرض بأسبابها وترابيتها جعل يتعجب من العطايا التي تعدت اﻷسباب والحوائل والعوائق التي حالت دونها..

"قال كذلك قال ربك (هو علي هين )قد خلقتك من قبل ولم تك شيئا"

هذا أمر ليس هينا ولكن على الله هين..

لو أوكل الناس أمورهم وطموحاتهم وآمالهم التي في أعينهم معقدة بعيدة المنال لمن هي عليه هينة..لتيسرت أمورهم واتسعت اﻷرض والسماء لهم .."لو تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتعود بطانا"

كل ما تريد وما تحتاج عليه هين وتذكر المنن السالفة "ولقد مننا عليك مرة أخرى" استدع ذاكرة النعم واﻹنجازات الأولى الاي وفقك فيها حتى توقن أنه مهما أحلولكت الحياة سيأخذ بيدك وقلبك إليه أخذ الكرام عليه مهما تطاولت المحن و تجبر الملوك و تقلب الكفار في البﻻد وعﻻ صوت منابر الشياطين و تزين صولجان الباطل بضحيج الطواغيت نصر الله آت والتمكين قائم ..

"حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء وﻻ يرد بأسنا عن القوم المجرمين"

إذن لماذا حرمتني مما هو عليك هين تسعين عاما ..؟!

لماذا الحرمان لماذا اﻻبتﻻء واﻵﻻم والجراح والمخاوف..؟!

لكي نسمع صوت دعائك وتضرعك يا زكريا وهذا الذي تحتاج وإن حرمناك بعض الوقت ما تريد ..

"فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا" ..

نعم قد نتعجل ونريد التمكين حاﻻ ولكن إذا حدث ستعجل لنا العقوبة ﻷننا لسنا على ذاك المستوى من التأهيل التفسي واﻹيماني..

فيحرمنا منه ليعطينا ما نحتاج من تحقيق عبودية اﻻستضعاف والصبر والمصابرة والمرابطة والمجاهدة والمدافعة والمراغمة ..حتى نصنع على عينه ويربط على قلوبنا رغم الحرمان واﻷلم فإذا مكنا

"الذين إن مكناهم في اﻷرض أقاموا الصﻻة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" حتى نعلم أن اﻷمر من السماء ليس من اﻷرض " وتلك اﻷيام نداولها بين الناس" " واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في اﻷرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون"

"قال رب اجعل لي آية قال آيتك أﻻ تكلم الناس ثﻻث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا"

مع أنها عﻻمة المعجزة واﻻصطفاء والكرامة على الله

ولكنه وقد أمسك لسانه لم يتوقف عن الدعوة إلى الله حتى باﻹشارة أرواح خيرة تمشي على اﻷرض مرتبطة بالسماء ..

فكما تعبد في الحرمان..

تعبد في العطاء ..فاﻷولى بالصبر والثانية بالشكر

نسأل الله من فضله ورحمته وقربه وبره وإحسانه وأن يرضينا بقضائه ويشوقنا للقائه إنه ولي ذلك والقادر عليه...

شارك