المنظومة الرباعية الأبعاد { التوبة..رؤية مجتمعية جديدة }
الدعوة إلى الله ليست واجبا وتكليفا
يضطلع بها العبد بين يدي ربه فقط ولكنها رحمة من الله يضعها في قلوب الدعاة
يتحركون بها في كل مكان بسمتهم وسلوكهم ينشرون النور والبركة في كل مكان.
والبشرية في قمة الحاجة لمن يذكرها
بالله لتنزجر عن صلفها وطغيانها ولكي ترعوي عن جحودها و كنودها وظلمها وجهلها ولكي
تنزع من بؤسها وشقائها ببعدها عن خالقها وفطرتها النقية بحبه والشوق إليه ؛ فأشواق
الروح ﻻ يحدها حد إلى الله لوﻻ كثافات المادة والحمأ المسنون والطين التي تحول
بينها وبين الوصول لكمالها بتحقيق إنسانيتها من خﻻل العبودية.
وكثيرا مانظن أن ذلك مسئولية العبد
بمفرده أو التائب الذي أراد أن يتحدى العوائق لربه - وحده، وإن كان عليه قدر كبير
من المسئولية ولكنه ﻻ يتحملها بمفرده بل هو عنصر من أربع عناصر في منظومة رباعية اﻷبعاد
تظهرالتوبة والرجوع إلى الله كمسئولية مجتمعية حقيقية ، وهذا الذي يفصح عنه حديث
أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الصحيح في قصة قاتل المائة تفس الذي كثيرا ما يطرق
مجالس وعظنا دون النظر ﻹصﻻح المحتمع من خﻻله.
فقد اتضح من خﻻل القصة أن التوبة
منظومة رباعية اﻷبعاد تتكون من :
1-تائب يتحدى العوائق
وهو قلب يتيقظ بإذن ربه وهدايته
وتوفيقه من رقود الغفلة ويتحدى العوائق والعقبات فيقتحمهاو هي تنقسم لعوائق داخلية
من نفسه اﻷمارة بالسوء بجهلها وظلمها و جزعها ومنعها والشيطان الذي يجري منها مجرى
الدم من العروق وعوائق خارجية من الدنيا وفتنها من فتن النساء والولدان والمال
والملك
وهو العنصر الأساس في هذه المنظومة و
ينبغي اﻻجتهاد في ايجاده من خﻻل الدعوة الفردية والبﻻغ والوعظ ببيان كل حيل النفوس
والشياطين للحيلولة بينه وبين سر سعادته وبيان فتن الدنيا وكيفية التغلب عليها من
تحقيق التعلق بالمطلوب اﻷعلى فتتقطع كل حبائل الشهوات والجاذبية اﻷرضية على قدر
قوة دفع الحب الذي في القلب ، ويقترب من النجاة ولو "بشبر" وينوء بصدره
في سكرات موته نحو الفرية الصالحة..يزحف ويحبو نحو النور فيتحدى الموت أيضا..!
2-داعية عالم
وهو أكبر التحديات التي تواجه العمل اﻹسﻻمي
برمته وهو الشخصية التي ترتقي بنفسها لتكون على مستوى اﻹسﻻم علما وعمﻻ وخلقا وسمتا
وفقها ودعوة وبﻻغا مبينا بكل أنواع البيان اللفظي والحالي بعيدا عن الغلو والجفاء
واﻹفراط والتفريط والتتفير والتكفير وصد الناس عن سبيل الله بزعم الورع كالراهب
الجاهل مما يؤدي علم أم لم يعلم إلى صنع الطواغيت والجبابرة ولو كانت موجودة يزيد
في طغيانها "فقتله فكمل به المائة"
كم تساوي تلك الكلمة التي ترفع شعار
أمام مجتمعات"ليس لك توبة"..؟! تزيد من صلفهم وطغيانهم لعداوات شخصية
وحظوظ نفسية أو طائفية وينبغي أن تتجرد الدعوة إلى الله من كل هذه العوائق حتى
تخلص من ذلك الغضب المستطير من رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ رضي الله عنه-
حين أطال الصﻻة بسورة البقرة فلم يراع أحوال المأمومين وليس هذا فقط بل وصف من
أنكر عليه بالنفاق -فقال له"أفتان أنت يا معاذ، سبحان الله عباد الله إن منكم
منفرين" والشق الثاني من فعل معاذ رضي الله عنه هو اﻷخطر وهو سر التنفير .
وتحدي الداعية العالم الذي يواجه
الصحوة ﻻ يعالج بمقالة أو محاضرة وندوة وشعارات ترفع إنما بالعمل المجتمعي الرباني
الجاد في إيجاد تلك الشخصية المتكاملة الغير مشوهة التي تضلعت من الشريعة ومقاصدها
وكلياتها فﻻ يهولنها كثرة الفظائع والجرائم وظلم الواقع لﻻستغراق فيه دون وزن اﻷمور
بالموازين الشرعية المنطلقة من مشكاة النصوص وكبح جماح النفوس والعواطف ليستقيم
طرحه الدعوي المنهجي المتجرد من رعونات النفوس بدون غلو وﻻ جفاء وباﻻتباع ﻻ اﻻبتداع
في تغيير الواقع اﻷليم.
إنه الفهم الدقيق واﻹيمان العميق
بالرحمن تعالى وبشرعته "ومن يحول بينك وبين التوبة"
بمعرفة سعة رحمة الله وأن ذنوب العباد
مهما عظمت فهي شيء ورحمت الله وسعت كل شيء وأن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم
"لو رأيتني يا محمد وأنا أدس الطين في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة "
وهو يقول الكلمة(آمنت أنه ﻻ إله إﻻ الذي آمنت به بنو إسرائيل) ..فإن كانت الرحمة
قد تدرك مثل فرعون فما بالك بمن دونه وﻻ يفقه ذلك إﻻ من كان بالرحمن خبيرا..!
3-مجتمع إيجابي
من أكبر العوائق التي تحول بين
التائبين ةبين طريق اﻻستقامة صحبة السوء والبيئة الخبيثة التي ﻻ تخرجوإﻻ نكدا من اﻷقوال
واﻷفعال واﻷخﻻق وليس هذا البيان ليتكأ عليه التائبون فضﻻ عن المصلحين لتبرير تعطيل
الدعوة ولكنه بيان لتحدي عقبة ﻻبد من اقتحامها وهو يمثل ثاني أكبر تحدي يواجه
المجتمعات وأعظمهم احتياجا لمدى طويل للعﻻج.
توفير تلك البيئة الصالحة ﻻ يكون
بتركها واﻻنعزال عنها كما كان يسع ذلك الرهبان ولكن باﻻختﻻط واﻻنخراط والصبر على اﻷذى
وفرض واقع جديد إيماني وعمراني قال تعالى "وماأرسلنا قبلك من المرسلين إﻻ
إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في اﻷسواق " فالنبوة حقيقتها في البﻻغ وتأدية
الرسالة بخلطة البشر والعطاء
قال صلى الله عليه وسلم "من خالط
الناس وصبر على آذاهم خير ممن لم يخالط الناس ولم يصبر على آذاهم"
مجتمع سلبي أرض سوء ﻷن الذين عليها ﻻ
يأمرون بالمعروف وﻻ ينهون عن المنكر فيوشك الله أن يعمهم بعقاب فليس العقاب
والتدمير فقط بالزﻻزل والبراكين واﻷعاصير بل التدمير أيضا معنويا بتدمير المجتمع
داخليا وخلقيا وروحيا .
فالتوبة أيضا مسئولية ذلك المجتمع الذي
يرتدع فيه المذنب وﻻ يجهر ويستتر بفعلته وينبذ بفعل الفطرة المستقيمة لدى هذا
المجتمع.
وبالنسبة للفرد ﻻ للمجموع قد يجوز اﻻنعزال
لبعض الوقت ﻻشتداد عود اﻹيمان واخضراره داخل قلب التائب حتى يتسنى له الدعوة على
بصيرة والخلطة للإصﻻح وليس هذا تكأة ﻻنعزال طائفة أو عزلة شعورية لها تؤدي ﻹنتاج
أسقام فكرية وعلل سلوكية من اﻻستعﻻء والطغيان بالطاعة أو التعصب المذموم .
وبعد بيان هذه اﻷبعاد التي تبين التوبة
في رؤية مجتمعية جديدة كمسئولية لكل فرد من أفراد المجتمع ليس على التائبين أو
الدعاة فقط بل أمر النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين الذين يقودون
الناس بكتاب الله ولعامتهم مسئولية كل مسلم مخلص لربه تبارك وتعالى ..
4-بعد غيبي
ويتجلى في نهاية القصة البعد الغيبي
الذي ﻻ طاقة للعباد به وهو إرادة الله رحمة بعبد فﻻ مرد له وﻻ ممسك لرحمته
"ما يفتح الله للناس من رحمة فﻻ ممسك لها وما يمسك فﻻ مرسل له من بعده وهو
العزيز الحكيم " " الذي خلقني فهو يهدين " "إنك ﻻ تهدي من
أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " وهنا ترد هذه اﻵية موردا صحيحا بعد الثورة اﻹصﻻحية
من اﻷسفل للأعلى في المجتمع "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ﻻ يضركم من ضل
إذا اهتديتم " فبعد اﻷخذ بأسباب الهداية الفردية والجماعية والمجتمعية فﻻبد
للتائب والداعي والمجتمع الصالح المصلح باﻹنابة والتوكل وتفويض أمر الهداية واﻹضﻻل
لرب العالمين فهو يخلق الهداية في قلب من شاء من عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء
يرفع ويخفض ويعطي ويمنع يقبض ويبسط تبارك وتعالى يسخر أسباب الكون كله لقلب استقام
على العبودية "فأوحى ﻷرض المعصية أن تباعدي وﻷرض الطاعة أن تقربي فوجدوه أقرب
إلى أرض الطاعة بشبر" فلنستصحب بعد هذه المنظومة ذلك البعد بل هو في الحقيقة
البداية والنهاية واﻷصل والفرع ..فالتعلق بالله واجب كل مرحلة ودور كل مسلم في كل
نفس ولحظة ولفظة