جداول النور

جداول النور

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ 

 

فتشرق الأنوار من القرآن على القلوب على حسب بصرها وبصيرتها، وقدرتها على استيعاب تلك الأنوار من كلام العزيز الغفار، (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور:35).

 

قال أُبي بن كعب وابن عباس -رضي الله عنهما-: "مثل نوره في قلب المسلم"، فالله ينير القلوب على حسب طهارتها وتطهرها، وعلى ذلك يترتب نهلها من كلامه -تبارك وتعالى-، وكلما طهرت لا تشبع من كلام الله، قال عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: "لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم".

 

وكلما استنار القلب وأصبح مشبَّعا بالنور من القرآن ومعانيه تدفقت أنواره في جداول النور، وهي الجوارح مصب الأنوار من القلب؛ النبع الصافي لكل التصورات المستقيمة والإرادات الحسنة الخالصة، قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "القلب مَلِك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت الجنود وإذا خبث الملك خبثت الجنود".

 

فتجد النور على الكلمات الدالة على عمران الفؤاد بمحبة الرحمن.

 

وتجده أيضًا على الأركان الباذلة جهدها في خدمة الديان من ركوع وسجود وسعي في نشر الخير وخدمة المسلمين، والأعمال الصالحة عمومًا هي الأوعية لمواجيد القلب وأنواره، وتجد هذا النور جليًّا على الوجوه، فالوجه خريطة القلب وعليه تظهر صفات القلب والروح.

 

وفي أثر عطاء بن يسار -رحمه الله- الذي ذكره ابن القيم في "روضة المحبين" إشارة إلى ذلك حيث قال: "سأل موسى -عليه السلام- ربه: رب مَن هم أهلك الذين تظلهم في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك؟ قال: هم البريئة أيديهم، المطهرة قلوبهم، الذين يسبغون الوضوء على المكاره، الذين إذا ذكروا ذكرت بهم وإذا ذكرت ذكروا بي".

 

إذا رؤوا ذُكر الله! وكأن قسمات وجوههم تدلك على قلب ضارع في محراب العبودية، قال جعفر بن محمد: "كنت إذا أحسست من قلبي قساوة، أذهب إلى محمد بن واسع فأنظر في وجهه نظرة، فإذا وجهه وجه ثكلى، فأخشع عليها أسبوعًا!".

 

يخشع أسبوعًا من الخشوع؛ لما في الوجه مِن تدفقات النور في ذلك الجدول الجميل.

 

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إن للطاعة نورًا في الوجه، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، وإن للمعصية ظلمة في الوجه، وضعفًا في البدن، وضيقًا في الرزق".

 

قال عبد الله بن المبارك: "كنت إذا نظرت إلى الفضيل جدد لي الحزن ومقتُّ نفسي".

 

ويزداد فيضان الأنوار من القلب على الجوارح أكثر وأكثر إذا كانت تلك الأنوار نفعها يتعدى للناس، فتصبح الأعمال دائمة لا تنقطع؛ من علم يُنتفع به، أو صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو لك، أو توريث مصحف، أو حفر نهر.

 

ولعصرنا أيضًا: توزيع الكتب والمطويات والأقراص المضغوطة والشرائط، والدلالة عليها، وتلاوة القرآن تعليمًا، وتدريس العلوم الشرعية، وكلما انتفع إنسان بالنور من تلك الأعمال الصالحة واهتدى ازداد النور في الوجه والجوارح، وأفاض الله برحمته من أنواره وبركاته على ذلك القلب.

 

ولذلك فالدعاة والعلماء الربانيون يجدون في قلوبهم ما لا يجده غيرهم؛ إلا إذا اقترب منهم ومن أعمالهم، فإن من نعيم الحياة أن تصحب عالمًا ربانيًّا، ومِن نعيم الجنة أن تصحب الأنبياء والمرسلين، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا . ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) (النساء:69ـ70).

 

فإذا وجدت جداول النور مظلمة مقفرة جافة؛ فاعلم أن القلب تائه عن درب النور، مظلم يحتاج للتزود؛ فعليك بالقرآن تلقيًا وتنزيلًا على أدواء القلب، وتدبرًا وفهمًا وتغنيًا، فتنفتق لك طاقة نور تتدفق منها الأنوار من جديد للجوارح والأعمال، (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى:52).

 

ولا تحسب أن أمر التدبر والتفهم للقرآن قد بعدت بينك وبينه الشقة، لا بل ابذل من وقتك في التلاوة والسماع، وسوف تتذوق حتى وإن كانت بضاعتك قليلة في العلم؛ فلقد قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر:17).

 

فتزود من النور لتملأ تلك الجداول، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ) (رواه مسلم).

 

وخذ بحظك من الأنوار، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بَشِّرِ المَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى المَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ القِيَامَةِ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وادعُ بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان يذهب إلى لمسجد: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا، وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا، وَخَلْفِي نُورًا، وَاجْعَلْ لِي نُورًا) (متفق عليه).

 

تلك الأنوار المعنوية تنقلب يوم القيامة أنوارًا حسية تُرى وتُعاين، والخلائق من المسلمين يمرُّون على الصِّراط، فمنهم مَن نوره كالشمس، ومنهم مَن نوره كالقمر، ومنهم مَن نوره على إبهام إصبعه يضيء مرة ويخفت مرة، ومنهم المنافقون الذين يؤتون نورًا في أول الصراط ثم ينزع منهم في وسطه، فينادون المؤمنين في خشوع وحسرات على الأيام الخالية في الدنيا مرَّت، وجداول النور مقفرة ومظلمة.

 

ولقد وصف الله هذا المشهد المهيب بعد الدعوة للتصدُّق والبذل في تلك الآيات التي تداوي القلب من جراحات الدنيا الكالحة، فقال: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ . يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ . يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ . فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:11-16).

 

ألم يأنِ لنا أن تخشع قلوبنا وتمتلئ حبًّا للآخرة، وشوقًا ونورًا يبدد ظلمات الدنيا من ظلم للنفس من ذنوب ومعاصٍ وكبائر، وظلم أكبر وهو الشرك بالله في التصورات والإرادات، فالظلم ظلمات يوم القيامة ولا ينقشع إلا من هنا، مِن تدفق الأنوار في جداول النور؛ فالتمسوا نورًا.

الابلاغ عن خطأ
شارك