تجديد المنطلقات الربانية للصحوة الإسلامية (3)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول
الله، أما بعد؛
فكثيرًا ما ننتقد فكرة العزلة الشعورية
التي في أدبيات بعض الجماعات الإسلامية المنحرفة التي اعتبرت نفسها الإسلام نفسه
-وليست جماعة من المسلمين-، وطبَّقت كل أحاديث البيعة والجماعة والإمامة السياسية
على قادتهم ورؤسائهم، وشطوا في ذلك شططًا بعيدًا.
ومع ذلك فلا ينبغي أن نعتبر أنفسنا في
مأمن منها؛ لا سيما وقد علمنا أنها مِن حيل الشيطان التي يريد استدراج الناس لها،
فربما تسرب للبعض وهو لا يشعر بعض هذه الأمور؛ فتجده يختزل الدين في بعض مظاهر
الهدي الظاهر، وهي على أهميتها ليست هي الدين كله، بل ولا هي أهم شعائره، وهذا
الشعور قد يدفع صاحبه إلى الزهد في الدعوة الفردية والجماعية، ويعزف عن التواصل مع
كل الفئات لدعوتها لإنتاج الشخصية المسلمة المتكاملة في نحت عقائدها وقيمها وفي
تصوراتها وسلوكياتها، وقد لا يستلزم هذا التواصل في كثيرٍ مِن الأحيان إلا ابتسامة
عذبة، وكلمة حانية، وحرارة اللقاء والتزاور.
ولا شك أن للطباع الشخصية دورًا كبيرًا
في وجود هذه الظاهرة، لكن يجب على مَن
يريد أن يستعمله الله في إرشاد الخلق إلى طريق الهداية أن يقوِّم نفسه ويهذب
عاداته؛ حتى لا تقف عائقًا أمام باب خير عظيم كهذا، بل عليه أن يخشى على نفسه مِن
أن يكون الدافع الحقيقي لهذا السلوك بعض الأمراض القلبية مِن كبر وعجب، ورؤية
للنفس، فتعالَج بتربية إيمانية حقيقية.
وربما يكون قد تأثر بتلك اللوثات
الفكرية التى تقوم على تكفير المجتمعات دون جماعته وحزبه وطريقته، والصدام
المعنوي؛ فضلًا عن المسلَّح كطريقة للتغيير يسميها حتمية المواجهة، مما أدَّى إلى
نتائج مأساوية عبر تاريخ الصحوة يرجعها إلى مرحلة ما قبل الصفر في إنجازاتها
الدعوية المجتمعية!
وكل ذلك أدى إلى أن أصبح الانتماء إلى
تلك الجماعات القائمة على تلك العصبية وبالًا؛ لأنه انتماء يُعقد عليه الولاء
والبراء، وإنما الذي يشرع مِن الانتماء ما ليس فيه عقد ولاء وبراء على المسمَّى،
وأنه ليس بديلًا عن مسمى الإسلام، وما هو إلا تعاونًا على البر والتقوى للقيام
بواجبات وفروض كفائية لا يطيقها الفرد بنفسه، فوجب التعاون للاضطلاع بها بغيره،
وبأمر القادرين، لا أن يكون الانتماء مسوغًا للاستعلاء والانغلاق والتحوصل!
وكسر تلك العزلة الشعورية نظريًّا
ومعنويًّا مهم، وعنصر حاسم في إيصال الحق للخلق وإيصال منهج أهل السُّنة والجماعة
لكافة أطياف المجتمع، مع المرونة في وسائل وآليات الدعوة ما لم تخالف البينات من
النصوص والإجماع والقياس.
هذه مسئوليتنا في البلاغ المبين
بالحكمة والرفق والموعظة الحسنة والصبر، قال -صلى الله عليه وسلم-: (الْمُؤْمِنُ
الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ
الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ)
(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
ومِن ثَمَّ لا تتوقف دعوتنا وتنحصر دون
جدران المسجد وننتظر دخول الناس، ثم إذا دخلوا لا نلتفت إليهم! بل نخرج إليهم
ونتحرك، ونكون نحن المساجد المتحركة بين الناس، بحيث نذكر الناس بربهم وبقضيتهم،
ونأخذ بأيديهم لطريق الله.
فلابد مِن فهم لطبيعة دعوة الأنبياء
-صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين- مِن الحركة والخلطة والجهاد، والمدافعة
والمناظرة، وهذا مطرد في القرآن: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا
تَنِيَا فِي ذِكْرِي) (طه:42)، ودعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- في مواسم الحج،
والطائف، وهجرته للمدينة، وانطلاقه في دعوة الملوك في بلاد العجم حوله -صلى الله
عليه وسلم-.
فهذا المنطلق وهو: تقويم السلوك
المنبثق من خلل في الخلفيات؛ إما البيئية أو التربوية أو الفكرية الذي يؤدي بدوره
لتقويم الحركة والانتشار المجتمعي، يصب في التوسع الأفقي للدعوة والبلاغ، والدلالة
على الفهم الصحيح للمنهج في زمن غربة الإسلام بين الملل، وغربة مذهب أهل السُّنة
والجماعة الملتزم بفهم السلف بين الفرق والمذاهب المعاصرة، مع مراعاة اختلاف
الذائقة الثقافية لكل فئةٍ مِن فئات المجتمع، والعمل على مراعاة ذلك في خطابها
الدعوي في إيصال ما لا يسع المسلم جهله على مستوى العقائد والعبادات والمعاملات؛
كل على حسبه.
والأصل الجامع لهذه المنطلقات الثلاث:
"وهي: العالمية - والدعوة إلى المحكمات قبل المشتبهات - وتقويم السلوك الحركي
في المجتمع": هو الرحمة والإخلاص والرفق، وهذا جميعه يقضي على تلك الحواجز
الوهمية والواقعية بين الناس وبين الحق، ويجفف منابع تلك الجفوة والفجوة بيننا
وبين المجتمعات لكي نصل إلى الهدف المنشود مِن استنقاذ الناس مِن سخط الله وعقابه
في الدنيا والآخرة.
نسأل الله السداد والتوفيق والقبول،
وأن يستعملنا ولا يستبدل بنا غيرنا.