تجديد المنطلقات الربانية للصحوة الإسلامية 1
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول
الله، أما بعد؛
فثمة أزمة تعيشها الصحوة الإسلامية في
هذه الأيام، والإسلاميون في مجتمعاتهم، وهي أزمة تواصل حقيقية بينهم وبين فئام
الشعب وطبقات المجتمع المتفاوتة، وحتى ما كان يميز الصحوة مِن تواصلها مع الشباب؛
باتت هذه الميزة باهتة بعد الانفتاح المعلوماتي المهول الذي اقتضته ثورة الاتصالات
الحديثة، وعصر السماوات المفتوحة.
بات الخطاب الدعوي المعاصر وبالأخص
السلفي بعيدًا تمامًا عن مفاهيم المجتمع واهتماماته، باتت هنالك جفوة واضحة بين
أبناء الفكر الإصلاحي السلفي وبين الشباب والكهول والشيوخ، وبين المثقفين والنخب
وبين مَن يرتاد مسالك الإعلام والفن والأدب حتى ولو في طريق فج في المخالفات
الشرعية والأخطاء المنهجية، فهناك فجوة فكرية حتى في دعوتهم وأنهم محل دعوة
وتغيير.
أول منطلق لحل هذه الأزمة والفجوة هو
فهم عالمية الدين، وكيف أن رسالة الإسلام رسالة عالمية الدين، وكيف أن رسالة
الإسلام رسالة عالمية، قال -تعالى-: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ
اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
(الأعراف:158)، وقال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).
إذًا قضية البلاغ قضية ليست مقتصرة على
المتدينين، بل وليس حتى على المسلمين، بل الأصل الانطلاق مِن دعوة المسلمين مِن
التقصير إلى الالتزام للانطلاق بهم لدعوة غير المسلمين في العالم لتكون كلمة الله
هي العليا، مِن خلال جهاد الكلمة والحجة والبيان، وجهاد السيف والسنان بعد تحصيل
وإعداد العدة والقوة.
- فهم طبيعة القرآن وخطابه العالمي
الأممي تفتح آفاقًا رحبة للعقول السليمة لاستيعاب عالمية الدعوة، قال -تعالى-:
(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ
فِي النَّاسِ) (الأنعام:122).
(النَّاس): اسم لجنس، لكل الناس المؤمن
والكافر، والبر والفاجر، فلا ينبغي أن تكون دعوتنا فئوية نخبوية، هذا ينافي هذا
المنطلق في فكرنا وتنظيراتنا، وينبغي أن يتمثل أيضًا في السلوكيات والآليات،
وينافي منطلق الرحمة في فهم حاجة البشرية وحقوق الإنسانية في معرفة الله والتغذي
بغذاء الروح، الوحي الذي يخرجهم مِن الظلمات إلى النور.
يقول المولى -تبارك وتعالى: (اللَّهُ
وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ
إِلَى الظُّلُمَاتِ) (البقرة:257)، وقال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا
الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ
عِبَادِنَا) (الشورى:52).
- فهم منطلق العالمية يجعلنا نحن أبناء
الصحوة نفكر في وسائل ذلك، والخروج من الجمود والأعراف، وتطوير الأداء والآليات،
ومواكبة المتغيرات مع الحفاظ على الأصالة والثوابت، والخروج من نطاق التقليدية
التي يخيّل للبعض أنه خروج عن الحشمة والوقار بأعراف وعادات ما أنزل الله بها من
سلطان.
نحن مطالبون بمخاطبة الناس على قدر
عقولهم وألا يكون حديثنا لبعضهم فتنة، وأن يكون بلسان القوم: (وَمَا أَرْسَلْنَا
مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (إبراهيم:4).
فالمقصد هو البيان للمنهج بكل معانيه
مع الحفاظ على الركائز الأساسية لدعوة الرسل مِن التوحيد والنبوة والمعاد، إذًا كل
الوسائل المنضبطة مطلوبة، وأن تتفتق أذهاننا إليها بلا تقيد بطابع فرضه علينا الجمود
لا الشرع.
علينا أن نعيد النظر في مسائل فرضها
العصر ومستجداته لمواكبة لغته: كالإنشاد وفن الرواية والمسرحية، والشعر والتمثيل،
وفن الرسم التصويري مِن غير ذوات الأرواح، والتجريدي والجرافيكس والرسوم المتحركة،
والصالونات الثقافية والاختلاط بين الجنسين بقدر الحاجة، والعمل السياسي، والأعمال
ضمن الجمعيات المجتمعية، والاختلاط بالواقع خلطة مؤثرة، ونبذ العزلة الشعورية التي
تحياها الصحوة حالًا، وإن رفضتها مقالًا، وغير ذلك مما هو مطلوب منا إيجاد البديل
الحقيقي كفعل لموجة ثقافية إسلامية متطورة لا كرد فعل لموجتهم المادية الملحدة
التي تخدم ثقافتهم وأيدولوجياتهم المنحرفة.
ولذلك هناك مسائل قد قفل الخلاف فيها
على قول واحد ينبغي علينا مِن دراسة فقهية حقيقية، وتطبيق فقه الخلاف والتمييز بين
أنواعه والتأدب بآدابه لا أن نحاكم الناس لقولٍ واحدٍ، ونقيم لهم محاكم تفتيش،
وننزع عنهم الانتماء للمنهج السلفي الأصيل في ضوء ذاك القول.
وكل هذه قضايا لا يتسع المقام
لتفصيلها، ولكن نأخذ على ذلك مثالًا: قضية الاختلاط بين الجنسين، ولا شك أن الصورة
الذهنية للاختلاط تجمع كثيرًا مِن
المخالفات: كالتبرج وإطلاق البصر، وتبادل الحوار بلا حاجة، إلخ.
وكل هذا ممنوع يجب اجتنابه، وكنوع من
سد الذريعة لو أمكن الفصل التام بين الجنسين كما نراه في المساجد فهو بلا شك أفضل
وأكمل، ولكن هل إذا دعا داعية إلى محاضرة يحضر فيها شباب من الجنسين كما يجلسون في
مدرجات الجامعة يرفض؟ وهل مَن رأى الرفض مِن حقه أن يتهم ذلك الداعية في دينه؟
وإنما أردتُ أن أوضِّح هذا حتى لا يظن
أحد أنني أؤيد الدعوات التي يرددها البعض على وسائل التواصل الاجتماعي من الترجيح
الفقهي بالتشهي والهوى، واتباع رخص العلماء، وإنما أريد أن تأخذ كل مسألة حظها من
الدراسة؛ لا سيما لدى بعض الإخوة الذين يرون تطبيق المشايخ لصورةٍ ما في طريقة
الدعوة أنها الصورة الوحيدة دون أن يكلِّف نفسه عناء السؤال عن: ماذا لو لم يتح
إلا الصورة الفلانية، وما يجوز وما لا يجوز من ذلك؟
هذا هو المنطلق الأول.
ويتبعه -إن شاء الله- المنطلق الثاني