الداعية إلى الله ...وقفات تربوية ( 1 )
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول
الله، أما بعد؛
الداعية إلى الله: بشر مثل أي بشر،
تعتريه لحظات ضعف البشرية من الحزن والألم، والهم والغم، وضيق الصدر، والخطأ
والنسيان.
النظرة الملائكية لبعض الدعاة هي التي
تصنع منهم أصنامًا تعبد من حيث لا نشعر، بالغلو والتعصب ثم إذا تحطمت هذه النظرة
بخطأ أو هفوة فإن الأمر يستحيل إلى جرح وتجريح، ونقد هدام ليس فقط لذوات الدعاة،
بل ولمنهجهم ودعوتهم أيضًا؛ لأن أغلب الخلق لا يفرِّقون بين الدعوة والداعية، وهذه
أصل مشكلة الانتكاس بشخصنة العمل الدعوي، ونزع ربانيته وتجرده.
الواجب هو النظرة المتوازنة والفصل بين
الأشخاص والمنهج، فالثاني معصوم، والأول ليس كذلك، فالدعوة إلى الله شرف، ولكنها
ليست صكًّا بالغفران أو القداسة والنزاهة المطلقة، بل هي واجب شرعي بين مفرط وقائم
به!
الداعية إلى الله: يحتاج دومًا إلى
ترياق من خلطة البشر، بالعزلة والتعبد بعبادة التأمل والتفكر، والاستغناء عن الناس
والزهد في لقائهم ريثما يتحرر قلبه من بعض العلائق التي قد تودي بدعوته؛ بسبب
السعي وراء رضا الناس أو الفرار من ذمهم، وهذه العلائق تنبت في القلب من وقت لآخر
بحكم البشرية التي تأتنس بالناس وتنزع إليهم، وذلك من علامات الإفلاس من الحكمة،
بخلاف مَن تشبع قلبه بالحكمة؛ فإنه يهتم بنضجها في قلبه، وهذا يحتاج إلي خلوة
متحلية بطول الفكرة وعمقها، فالداعية يحتاج إلى كسب مهارة نزع الصور من قلبه
وتجرده لمعاني الحق والنور التي لا تدخل قلوبًا فيها كلاب الشبهات أو صور الشهوات!
الداعية إلى الله: ليس لقبًا ولا حرفة،
ولا تخصصًا يُتخذ سلمًا لتحقيق الذات أو لصناعة مجد شخصي أو شهرة وأضواء، بل هي
مهمة واجبة على الأمة بأسرها أن تكون خير أمة تنتشر فيها شعيرة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر؛ كل حسب قدرته وعلمه، وموقعه وتأثيره، وليس الأمر قاصرًا على مَن
اتسم بسمت أو انتمى إلى جماعة أو حزب أو طريقة أو شيخ، بل الأمر أعظم من ذلك، وأعم
وأشمل، وينبغي تعبئة جهود الأمة كلها لتصب في إخراج العباد من عبادة العباد إلى
عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا
والآخرة بالبلاغ المبين بكافة الوسائل العصرية المنضبطة بالشرع.
الداعية إلى الله: الذي يخالط الناس لا
بد من أن يوطِّن نفسه على الأذى والبلاء، فالله قدَّر أن هذا الطريق -طريق الجنة-
محفوف بالمكاره والمحن والآلام؛ فضلًا عن حقيقة الدنيا التي خُلقت مكدرة منغصة،
يدخر الله لعبده في هذا الطريق مزيدًا من البلاء لمزيدٍ مِن الأجر، ولمزيدٍ من
الرحمة؛ فكلما تضاعفت عليه المحن ظهرت طاقته في الصبر والاحتساب، وكلما ازداد رحمة
كان أكثر إشفاقًا على الخلق أصحاب البلاء الحقيقي بالبُعد عن الله، والتيه عن طريق
الطمأنينة والسكينة، وآلام الروح أضعاف أضعاف آلام البدن.
فليفهم الإنسان حكمة البلاء، وليحسن
الظن بربه فيصبر ويحتسب، ويرضى ويسلم، ويتضرع ويناجي، وييأس من نفسه ومن الناس،
ويصدق في اللجوء إلى الله، فيخلص التوحيد الذي ينير قلبه وقلوب مَن حوله.
الداعية إلى الله: الدنيا خُلقت مكدرة،
مليئة بالآلام والغموم والهموم، والذي يذهب بهذه الهموم جمع القلب إلى إرادة السفر
إلى الله -تعالى-، وهم الآخرة، والفردوس الأعلى من الجنة، وأعظم مقامات ذلك هو
الجهاد في سبيل الله بالسيف والسنان، وأرفع منه بالكلمة والبيان، وهو المقصود
الأعظم من إرسال الرسل وإنزال الكتب، والبلاغ المبين لرسالات الله، قال النبي -صلى
الله عيله وسلم-: (عَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ بَابٌ
مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُذْهِبُ اللَّهُ بِهِ الْهَمَّ وَالْغَمَّ) (رواه أحمد
وابن حبان، وقال الألباني: حسن صحيح)، وقال الله -تعالى-: (فَلَا تُطِعِ
الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (الفرقان:52)، وقال -تعالى-:
(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) (النحل:35)، وقال -تعالى-:
(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ
أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (الأحزاب:39).
هذه الوظيفة الإخلاص فيها والتجرد،
وإنكار الذات، والافتقار إلى الله، والتبرؤ من الحول والقوة، وربانية أدائها، تذهب
كل هموم قلبك وآلامه، وتضمد جراحه مهما كان مثخنًا من جراح الدنيا ونصبها ونكدها
وتنغيصها، فتنقل صاحبها إلى عالمٍ فسيحٍ، وسعة وانشراح صدر؛ إضافة إلى المكوث في
الأرض حتى بعد الرحيل بالبصمة الحية، والصدقة الجارية، والنفع المتعدي المستمر
(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ
فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (الرعد:17).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.