تأملات إيمانية في خواتيم سورة الحجر [ 4 ]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول
الله، أما بعد؛
فالله هو السميع البصير العليم، يعلم
ما بك -أيها المحب له والداعي إليه- مِن ألمٍ وحزنٍ عميقٍ، حسرات تكاد تقطع القلب
على مَن بارز ربه بالشرك والكفران، أو المخالفة والعصيان، الله يسمع قولهم لك مِن
أذى واتهام، واستعلاء وعجرفة، وسخرية واستهزاء، وقد قدَّر ذلك لحكمٍ جليلةٍ
جميلةٍ.
ومِن هذه الحكم: ذلك المشهد المتدفق
بالنور (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (الحجر:98)، لا
يتحرك اللسان، ولا تتمتم الشفاه بالرد والجدال، والمراء السقيم، وإذ ما تحركت
فبالتسبيح بحمد الملك والتسبيح، والتنزيه له عن النقائص، والحمد إثبات المحامد،
وجمال الصفات والأفعال.
وتنطلق الأركان بالهوى للسجود بين يدي
عظمته والتذلل له -تبارك وتعالى-، وهنا تفتح بوابة القرب على مصراعيها، وهنالك
تندمل الجروح وتغسل القلوب بنسائم اللطف ورذاذ الرحمات، ويُجلى صدأ الأحزان
والأشجان، ولا تبقى إلا أفراح الآخرة، وفيوضات الرضا (فَاصْبِرْ عَلَى مَا
يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ
تَرْضَى) (طه:130).
والتسبيح والصلاة معنيان مرتبطان في
القرآن والسنة؛ لأنهما حقيقة واحدة في تحقيق التذلل لرب العالمين والثناء عليه بما
هو أهله، وتعظيمه وتمجيده -تبارك وتعالى-، ويأتي التوجيه الأخير كالتاج والجوهرة
الثمينة في ذلك العقد الفريد.
زبدة الإشارات، وأصل الأوامر
والتوجيهات، ولب إدارة الصراع بين الحق والباطل، (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى
يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99)، فعليك تحقيق العبودية ليس عليك النتائج، عليك
البلاغ المبين، ليس عليك استجابة الخلق، فإنما عليك هداية البيان، وعلى الله هداية
التوفيق.
عليك الصبر على الطاعة وعن المعصية،
وعلى الأقدار المؤلمة وهو حبس النفس؛ ليس عليك استعجال النصر، عليك السير إلى الله
بدون توقفٍ أو ترددٍ.
لا استعجال موعود الله مِن النصر في
الدنيا أو حتى في الآخرة، فالأمر كله بيده -تبارك وتعالى-، لا نتوقف حتى تصل بك
مقطورة الحياة إلى بوابة الغيب، بوابة الرحيل عن الدنيا إلى الآخرة، وهي الموت،
ولا تبرح بوابة العبودية صلاحًا وإصلاحًا حبًّا وشوقًا جهادًا وبيانًا، عملًا
وعمرانًا، ما دام فيك رمق حياة.
وترك أي مِن ذلك مِن طاعة الله هو موت
وإن كنت حيًّا، والموت في سبيل الله -سبحانه وتعالى- هو الحياة الحقيقية؛ لأن
الحياة تقاس بقضائها معه -تبارك وتعالى-، والموت بالبعد عنه؛ فلا استسلام ولا ركون
أو استكانة في الصراع بين الحق والباطل، والنور والظلمات في نفس المؤمن، أو مجتمعه
وأمته إلى أن يأتي اليقين من الله، فهذه الحقائق تهب النفس الطويل، والصبر والصفح
الجميل في تلك المسيرة، مسيرة التدافع والابتلاء التي نصبر فيها سويًّا حتى نصل
إلى موعود الله الجميل، فإن الله صَّبر المشتاقين بتلك الآية، وهي نعم الجزاء
والوفاء والأجر الجزيل، فهل مِن متصبر فيصبره الله حتى نصل إلى برِّ الأمان ولقاء
الرحمن؟! (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت:5).