تأملات إيمانية فى خواتيم سورة الحجر [ 3]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول
الله، أما بعد؛
(وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ
الْمُبِينُ):
الدعوة إلى الله وصدق البذل فيها من
أهم وسائل إدارة الصراع بين الحق والباطل، بل إدالة الحق على الباطل.
الدعوة إلى الله سر تخلص الشعوب من أسر
الطواغيت مكرهم وكيدهم وسحرهم، وتأمل قصة إبراهيم مع النمرود، وقصة موسى مع فرعون،
وقصة مؤمن آل فرعون، وغلام أصحاب الأخدود، وانظر إلى أثر الدعوة في إزهاق الباطل
وعلو الحق والعز والتمكين في الدنيا قبل النعيم في الآخرة (بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ
الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء:18).
وما ضعف المسلمون عبر التاريخ إلا لتضييعهم
شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ النذارة والبشارة، والدعوة إلى الله؛
لأنها ىسر خيريتهم (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل
عمران:110).
الدعوة إلى الله سر الخير والتمكين، وكسر
الطواغيت، وتحرير الأمم، وبناء الحضارات، وإرساء المبادئ والقيم، وهدم الباطل
وزخارفه، والقذف بالحق الدامغ لكل فساد وظلم واستبداد؛ ولذلك لابد من المواجهة
والانخراط والاختلاط..
ستواجه وجوهًا صالحة، وقلوبًا كارهة منكرة
مستكبرة، وظلمات، وأمواتًا وصدودًا وإعراضًا، ولابد من الصبر على الحق كما أن
الكفرة الفجرة يصبرون على الباطل، بل ويقسمون على نصرته وأحقيته في الوجود، (كَمَا
أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ . الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ .
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ . عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
(الحجر:90-93)؛ هؤلاء المقتسمون الذين يقسمون على الباطل (وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ) (النحل:38).
وقد أقام الله عليهم الحجة وبيَّن لهم
المحجة، فلا عذر لهم في التكذيب والعناد، لا عذر لهم في تكذيبهم ولو لحرف واحد من
القرآن، فالحق لا يتجزأ، والحقيقة مطلقة؛ أن الله هو الحق المبين؛ فليس لهم أن
يجعلوا القرآن عضين، أي: يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض!
فيرد الله على قسمهم على الباطل -وما
هذا القسم إلا باطلًا- بقسمٍ منه -تبارك وتعالى- على إحضارهم وإرجاعهم بين يديه
وسؤالهم؛ فهم كذبة (وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ
اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لاَ يَعْلَمُونَ . لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ) (النحل:38-39).
فسوف يرجعهم ويحضرهم بين يديه، ويحاسبهم على كل
صغيرة وكبيرة، فيقول المولى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ .
عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الحجر:92-93).
قال ابن عباس: عن لا إله إلا الله، وهي
أهم شروطها وأركانها وحقائقها التي تشمل الدين كله، وهذا مصداق قوله -تعالى-:
(ويَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً
وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا
يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف:49)، كل أعمالهم، وبهذا تتفق أقوال كل المفسرين.
واعلم أيها النبي وأيها الداعية إلى
الحق أنك مسئول أيضًا: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ
تُسْأَلُونَ) (الزخرف:44)، عن البلاغ المبين لرسالات الله وكلماته وأوامره، (قُلْ
إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا
. إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ) (الجن:22-23).
فعليك حمل ثقيل بين يدي الكبير المتعال
فقم: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:94).
وأصل الصدع: الشق والفصل، فالجهر
بالدعوة فرقان بين الحق والباطل والكفر والإيمان، والآيات تختصر لك وتطوى أمامك
ثلاثة سنين من الخوف والإيذاء لحفظ سرية الدعوة ثم تأتى هذه الآية بك إلى مرحلة
مختلفة من حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعوته إلى الحق، إنها القوة وشجاعة
النفس، ورباطة الجأش، في إبلاغ أكبر حقائق الكون والوجود، وجوب العبودية لله
الواحد القهار وحده -تبارك وتعالى-.
وفي غمار ذلك لا تلتفت عن قضيتك رغم
الاستهزاء والسخرية، وتعالي نبرة التحقير والإهانة؛ لأن (إِنَّا كَفَيْنَاكَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ) (الحجر:95)، (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)
(المائدة:67).
وكان جماعة من الصحابة -رضوان الله عليهم-
يحرسون النبي -صلى الله عليه سلم-، فلما نزلت هذه الآية: (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ)، خرج على الناس وأخبرهم وصرف الحرس.
الله يكفيك هؤلاء بما شاء وهو العلي
القدير، ولكن عليك أن تتأسى بربك في صبره على هؤلاء المشركين المعاندين، فربك هو الصبور
-تبارك وتعالى- يحلم عليهم مع قدرته؛ فكيف بك أنت أيها النبي، وأيها الداعية؛ كيف
يكون صبرك؟! مع ضمان الله لك بالكفاية والنصر، (إِنَّا كَفَيْنَاكَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ . الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهًا آخَرَ فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ)، فصفة الحلم لازمة لعباد الرحمن (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ
قَالُوا سَلَامًا) (الفرقان:63).
فإن كانوا يسبونك ويشتمونك وأنت مبرأ من ذلك،
فاصبر فالله أعلى وأجلُّ، ويسبه ابن آدم وليس له ذلك، ولا يعجل بالعقوبة ويحلم،
فيستحق الثناء والحمد -تبارك وتعالى- على صبره وحلمه، مع قوته وقدرته.
ثم تأتى التسلية الكبرى واللمسة الحانية، ونبضة
الأنس، والقرب الخاص من قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقلب كل منكسر في سيره
إلى الله من جراء الظلم والقمع، وقلب كل بذل وضحى ولم يجد غير الأذى والصدود
والنكران، قلب كل مجروح بجراحات مخالفات المدعوين وعصيانهم لربهم؛ غيرة لربه
-تبارك وتعالى-.
قلب كل متحسر على مَن تنكب الطريق إلى
الله وإلى سعادة الدنيا والآخرة: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ
بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ .
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)، وكأنها شبيهة بآية أخرى من
النجوم المتلألئة في سماء القرآن: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ
بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ . وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) (الطور:48-49).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.