تأملات إيمانية فى خواتيم سورة الحجر [2]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول
الله، أما بعد؛
فمَن يحمل القول الثقيل؟!
مَن يتهيأ لتلقي النبأ العظيم؟!
مَن يتلقى مصدر الحياة والنور والهدى؟!
إن قلب المؤمن بالله واليوم الآخر الذي
يتسع للإيمان واليقين بالقرآن العظيم؛ كلام الملك تبارك وتعالى، وما أدراك ما كلام
الله تعالى؟!
صفة من صفاته -تبارك وتعالى-، تكلم
الله به حقيقة وسمعه منه جبريل -عليه السلام-، وأداه كما سمعه للنبي -صلى الله
عليه وسلم-.
كلام الله... الذي خلق الإنسان وخلق
الأكوان، ومَن بيده ملكوت كل شيء، إنه الله العظيم.ف
فمَن يقف أمام المؤمن، وقد اتسع صدره
لتلقي كلمات الله: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)
(النمل:6)؟! مَن يغلبه إذا كان متصلًا بالله؟! (بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ
اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) (القصص:35)، كيف يستخفه الذين لا يوقنون وهو قد
ارتبط بالقول الثقيل في ميزان الحق (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)
(المزمل:5)؟!
إنها نعمة القرآن، وكفى بها نعمة!
وكفى بالقرآن معجزة لحسم الصراع بين
الحق والباطل، فإن كانت عصا موسى قال عنها الله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ
أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ . فَوَقَعَ الْحَقُّ
وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف:117-118)، فما بالك بالذي قال فيه
الحق -تبارك وتعالى-: (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ
لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا)
(الإسراء:105-106).
ما بالك بالذي قال عنه العزيز الحكيم
الحميد: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:41-42).
إنه القرآن الذي يثبت فؤاد الداعية
للحق رغم الصفعات المتلاحقة من الصد عن سبيل الله، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ
بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) (الفرقان:32)؛ ولذلك جاء الامتنان على
النبي -صلى الله عليه وسلم- بتلك العطية الهينة من الرب الرحيم -تبارك وتعالى-،
(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ . لاَ
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ
تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر:87-88).
نعمة جزيلة، السبع المثاني وهم آيات سورة
الفاتحة كما ورد في الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال: (أُمُّ القُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرْآنُ
العَظِيمُ) (رواه البخاري)، وسُميت المثاني؛ لأنها تكرر في الصلوات، ومعانيها
مبثوثة في القرآن، فتجمع حقائق القرآن ومجملات وأصول الاعتقاد والشريعة، وهي أفضل
سورة في القرآن كما في حديث أبي سعيد بن المعلى الذي رواه البخاري.
والقرآن وصف بالعظمة لمعانٍ كثيرةٍ،
منها: عظمته في رصانة ألفاظه وثقل معانيه، وبلاغة أسلوبه وبيانه، وجمال تراكيبه،
وأسره للعقل والوجدان، وعظمة أثره في صناعة الرجال وتربية القلوب تربية ربانية على
حقائق الإيمان، وصفاء الإرادات، واستقامة السلوكيات؛ كل ذلك تجده في القرآن غضًّا
طريًّا؛ نعمة ورحمة من الله، وكل نعمة في القرآن يلحقها تكليف وأمر للقيام بالشكر
لرب العالمين.
فجاء التكليف وفي طياته تسلية عن الدنيا ومتعها،
وأمر بالارتفاع عن الخلود إلى الأرض، وعدم الالتفات عن هذا النور، (لاَ تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ) (الحجر:88).
فلو كانت تساوي الدنيا شيئًا يذكر لما سقى الله
منها كافرًا شربة ماء، ولكنها جناح البعوضة يطيش بها، ولقد أعطاها لعدوه إبليس؛
فكيف ينظر إليها ولو بطرف عينه حبيب الله وولي الله؛ لا تجذبنَّك ألوانُها
وزينتُها، فهي زهرة خلابة الألوان، سريعة الذبول؟! قال الله -تعالى-: (وَلَا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)
(طه:131).
فتطلع إلى رزق ربك -تبارك وتعالى-؛ رزق القلوب
والأرواح، رزق الأعمال الصالحة، والقرب من الرحمن، رزق الدعوة إلى الله والعمل لديه
وخدمته؛ فهذا أعظم الحظ والنصيب الذي يحصله العبد في هذه الحياة، أن يسلك طريق
الأنبياء والمرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.
ثم إذا سلكتَ ذلك المسلك؛ فعليك بهذين
التوجيهين الربانيين من الرب الكريم:
- (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ . وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ
الْمُبِينُ) (الحجر:88-89)؛ فلا تحزن على مَن لم يستجب لدعوتك بعد قيامك بالنصح
والبلاغ المبين (وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ
أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ) (الأنفال:23)، ولا تذهب ويصيبك
الحزن والأسى (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (فاطر:8)، وارتقِ إلى مشاهدة حكمة الجليل في وضع
الأشياء في مواضعها؛ الخير في موضعه والشر في موضعه، يهدي مَن يشاء ويضل مَن يشاء،
يخلق ويختار ويصطفى (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص:56)، (وَكَذَلِكَ
فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن
بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأعراف:53).
فلا تحزن ولا يضيق صدرك (وَاصْبِرْ
وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ
مِّمَّا يَمْكُرُونَ) (النحل:127)؛ هذا في تعاملك مع المخالفين، أما الموافقون؛
فعليك بخفض الجناح، وهو تعبير كله تواضع ورفق، وحنان ولين ورقة؛ فهذا دأب المؤمنين
(أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة:45)،
فلا تغلظ عليهم لا سيما في وقت الضيق والكرب، وعليك أن تكون طاقة النور، وسراجًا
منيرًا حتى لا ينفضوا من حولك (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ
كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ
عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159).
وكان ابن القيم يقول عن شيخ الإسلام
ابن تيمية -رحمهما الله-: "كان أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم
قلبًا، وأسرهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت
منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك
كله، وينقلب انشراحًا وقوة، ويقينًا وطمأنينة!".
وقال يحيى بن معاذ الرازي: "ولي
الله ريحان في الأرض، فإذا شمه المريدون ووصلت رائحته إلى قلوبهم اشتاقوا إلى
ربهم".
فأحسن في عبادتك مع الله، واستعن
بالله؛ يفض الله على قلبك بواردات النور، والثقة في الرب الشكور، فإذا قلبك يتسع
لجميع الخلق، ويتسع خلقك معهم رفقًا ولينًا وتواضعًا، وكن كما قال عبد القادر
الجيلاني مع الخلق بلا نفس، ومع الله بلا خلق.
وكل ذلك في حقيقة الأمر لتحقيق البلاغ
المبين، والنذارة الكبرى؛ لتنقذ الناس من دركات النار، ولتكون سببًا في نجاتهم
ودخولهم الجنة.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.
صوت السلف
www.salafvoice.com